المقالات

التحول

بطبيعة حال البشر عمومًا تحركنا القصص والأحاديث الملهمة للأشخاص الناجحين أو المكافحين؛ جاهلين بشكلٍ تام ماقد قدمناه وصنعناه في حياتنا وماضينا. فجميعنا على حدٍ سواء لا نخلو من قصة أو حدثٍ أثر علينا أو على من حولنا بشكل عميق جدًا. فإن هذه القصص لاترتبط بماضينا البالغ فحسب، فكثيرًا منها ماقد يكون في طفولتنا وقد نكون حينها غير مدركين عن مدا تأثيرها وعمقها، لأنها قد تحدث بسبب مزيجٍ من الظروف، أو قد يسببها شخص واحد فقط.
فبشكل عام، حياتنا كيفما كانت باردة أو مثيرة، بائسة أو سعيدة، فنحن قد تعرضنا فيها لمواقف وظروف معينة جعلت منا مانحن عليه الآن، وليس من المستبعد أن نواجه ظروفًا مستقبلية أخرى تجعل منا أشخاصًا جُدد.
ومن العجيب في أمر الإنسان، أن الله قد يخلق أمام المرء ظروفًا تجعل منه شخصًا آخر تمامًا، فلا يبقى شيءٌ يعرف فيه كما السابق إلا اسمه. فيجد أن أمورًا كثيرة كانت تعنيه أصبحت اليوم لاتهمه، وأشخاصآ باعتقاده أنهم أكسجينه أصبحوا كعابري السبيل.
أحيانًا، بل أحيانًا كثيرة، وعندما أفكر في نفسي أجد أني أملك تحولاتٍ كثيرة، فنفسي وشخصيتي الآن لم تكن كما هي منذ سنوات قريبة، فمثلًا ما أذكره عن نفسي في أيام الثانوية شيءٌ لا يشبهني الآن وكأنني كنت فتاة أخرى بشكلٍ تام. أخيرًا، وعندما وصلت إلى هذه الفكرة وجدت أني في كل فترة من هذه التحولات واجهت مواقفًا أثرت فيني وغيرت مسار شخصيتي بوعيٍ مني أو من دون وعي.
فعلى سبيل المثال، منذ صغيري وأنا أُعرف بين أهلي وأقربائي بشخصيتي الإجتماعية، وحبي للإختلاط والحفلات والتعرف المستمر على الأشخاص الجدد وتوسيع دائرة معارفي. وبعد مشيئة الله وانتقالي للعيش في الولايات المتحدة، حيث ماللإنسان رفيق مستمر إلا نفسه. زادت اجتماعاتي مع نفسي، وبت اختلي معها كثيرًا، حتى وجدتها أروع صديق وأكثر أنيس. فالآن، تغيرت فيني تلك الصفات الإجتماعية الزائدة، فلم أعد أرغب بالتعرف على الغرباء بشكل مستمر، ولم أعد قادرةً أيضًا على تحمل الحفلات والإجتماعات الكبيرة والطويلة، فلست قادرة على الإبتعاد عن نفسي كثيرًا، لدرجةٍ أصبحت فيها أشعر بالتعب حين أغيب عن تلك الخلوة الرائعة.
فحتمًا غيّرت فيني ظروف الغربة والعزلة برغبة مني أو من دون رغبة، ماجعل مني شخصًا جديدًا بشكلٍ تلقائي. فالأمر لايعود لقوة التحمل أو للإرادة، لأن الظروف والمواقف هي التي تعيد من تشكيل الإنسان ليكون قادرًا على المرور بين هذه الصخور الصلبة، فلهذا يكون الإنسان الذي لا يتغير ولا يتأثر جسدٌ ميت، وروح يابسة، وأملٌ متوقف.
فماذا لو اختلى كلٌ منا بنفسه، وبدأ يسرد معها قصصه ومواقفه التي لا ينساها أو التي مرت عليه مرورًا ثقيلًا فأبقت في داخله أثرًا غيّر أشياءً كثيرة. لوجد كلٌ منا أنه بطلٌ عظيم، ولوجد فيه روايةً رائعة تستحق أن تُقرأ من قبل الجميع. ولوجدنا أيضًا أنقصصنا الحقيقية أعمق بكثير من ألف قصةٍ خيالية.
الإعلان

4 رأي حول “التحول

  1. كلام جميل جداً وكل فرد يحتاج إلى العزلة المتزنة ليراجع نفسه وحساباته ويقيم مسيرة حياته. ومع ذلك الحياة الاجتماعية وخصوصاً في مجتمعنا العربي السعودي أصبحت جزءً لا يتجزء ومن الصعب جداً التقصير بذلك. فأحياناً كثيرة تصعب على الكثير بأن يكون بمنعزل عنهم ولو لفترة ويبدو أيها الكاتبة الأريبة فرصة العيش في الولايات المتحدة قد ساهمت بشكل كبير ومباشر لتأصيل أهمية العزلة والعيش والتأقلم بها لكن الكثير لم يحصل على مثل الفرصة التي حصلتي بها فكنت اتمنى بأن تتطرقي ببعض الوسائل والأساليب التي تساعد على التأقلم على العزلة ولو بفترة بسيطة.
    المعذرة على الإطالة
    وفقك الله وسلم يراعك لما فيه خير

    Liked by 1 person

    1. مرحبًا بك أستاذ عبدالرحمن,
      أولًا، أود تنبيهك بأني قد تطرقت في تدوينة سابقة عن العزلة والإختلاط والموازنة بينهن تجدها هنا: https://nura1415.wordpress.com/2017/05/28/عزلة/
      لكن هنا في تدوينة التحول، أردت التركيز على المواقف والحوادث التي نتعرض لها فتتسبب بإعادة تشكلينا بشكل غير متوقع.
      أي أني لم أرد أبدًا امتداح الإجتماع أو التغني بجمال العزلة. إنما أوردته كمثالٍ لموقف واجهني وغير من داخلي كثيرًا. وماأعتقده أننا جميعًا نمتلك كهذا المثال وهذه المواقف التي خلقت منا أشخاصًا آخرين، قد نتعجب نحن منهم!

      شاكرةً لكَ مروركَ وتعليقكَ.

      إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s